لئلا يصبح الغاز مسيلا للدموع
كما كل شيء في لبنان، تحول الاتفاق على ترسيم الحدود البحرية الى مادة للتجاذب الداخلي بدل ان يكون عنصر جمع.
هذا التجاذب اتخذ أشكالا عدة، إذ انه تمظهر حينا في الانقسام بين دعاة الخط 29 ومؤيدي الخط 23 وصولا الى التخوين والتهشيم، وانعكس حينا آخر بالخلاف داخل صف المنخرطين في السلطة حول حصة كل طرف في الانجاز ومن هو صاحب الفضل الأكبر في صنعه.
َواذا كان معروفا ان الفقر يولد النقار، فقد كان منتظرا ان يؤدي إقرار تفاهم الترسيم والتنقيب عن ثروة الغاز الى إنتاج طاقة إيجابية في البلد بعد سنوات من الازمات المتدحرجة التي حرقت الأخضر واليابس، الا ان الحسابات الضيقة والحرتقات الصغيرة لدى البعض غطت على دلالات الاتفاق المنجز واهميته التاريخية، بحيث ان هناك من فضّل ان يقاربه انطلاقا من الأزقة السياسية التي يتموضع فيها، مغلبا الخصومات والنكايات على القيمة النوعية لاتفاق سينقل لبنان من كونه صاحب هوية هجينة اقتصاديا الى مصاف الدول النفطية.
وهكذا استعجلت جهات سياسية التصويب على الاتفاق، وحتى قبل الغوص في “آباره”، فقط من باب النكاية بالرئيس ميشال عون او بحزب الله، علما ان من المفارقات ان بعض المتحمسين للخط 29، والذي يستوجب التمسك به الاستعداد للحرب، هم من اشد خصوم المقاومة والمطالبين بنزع سلاحها!
من هنا، يبدو الداخل اللبناني بحاجة ماسة، هو أيضا، الى ترسيم للحدود بين القوى المتنازعة، وترسيم للخطوط الحمراء التي لا يجوز تجاوزها في بلد منهك لم يعد يتحمل قواعد اللعبة التي كانت سائدة من قبل.
ولعل الاهم في الاتفاق توقيته، ذلك انه اتى في لحظة انتشار عدوى اليأس والاحباط في المجتمع اللبناني تحت وطأة الانهيار الاقتصادي، وبالتالي فإن الأغلى راهنا من كميات الغاز التي لا تزال كامنة في قعر البحر، هو “الأمل الخام” الذي، وفور التوقيع، سيتم استخراجه وضخه في بلد يكاد يفتقر الى كل مقومات البقاء.
والغاز سلاح ذو حدين، فهو من جهة سيشكل فرصة ثمينة للنهوض وتحقيق استقلالية الاقتصاد والقرار عبر الاستناد الى الموارد الوطنية عوضا عن تسول المساعدات والقروض الخارجية المدفوعة الثمن سياسيا، ولكن الغاز نفسه قد يكون من جهة أخرى مسيلا للدموع او سببا للاختناق اذا جرى التفريط به في المزاريب والزواريب الداخلية، ولم تحسن الدولة استثماره بعيدا من مظاهر الفساد والمحاصصة.
ولئن كان استخراج الغاز لا يزال يحتاج إلى بضع سنوات نتيجة تراكم التأخير في الاستعدادات، إما بسبب المناكفات الداخلية وإما بفعل الحصار الخارجي، الا ان الخبراء يؤكدون انه فور إتمام الاتفاق وإيداعه لدى الامم المتحدة فإن نقلة نوعية ستحصل على مستوى “بطاقة الهوية” التي يحملها لبنان وتصنيفه الاقتصادي، والمطلوب ان تعرف الطبقة السياسية كيف تواكب المرحلة الجديدة.